حدود سلطان الإرادة في مواجهة القواعد الآمرة
الدعاوى المدنية
حدود سلطان الإرادة في مواجهة القواعد الآمرة
المحامي مصطفى شريدة الجبوري
مقدمة
يُعَد مبدأ سلطان الإرادة من الركائز الأساسية في الفقه المدني، وقد ظهر في القرن الثامن عشر متأثراً بالفكر الفردي الذي أكد حرية الإنسان وحقه في التصرف ما لم يضر بالغير. وانطلق من فكرة أن الفرد سابق على المجتمع، وأن المجتمع وُجد لإسعاد الفرد، لذلك لا يجوز تقييد الإرادة إلا لحماية النظام العام والآداب. ومن ثم أصبح العقد شريعة المتعاقدين كما نصت المادة (146/1) من القانون المدني العراقي.
نتائج المبدأ
يترتب على تطبيق هذا المبدأ نتيجتان أساسيتان:
- حرية المتعاقدين: يملك الأفراد حرية إنشاء العقود بمختلف أنواعها وتحديد شروطها.
- احترام الإرادة التعاقدية: ما اتفق عليه الطرفان ينفذ كما هو، ولا يُعدّل أو يُلغى إلا باتفاق جديد.
نقد المبدأ
وُجِّهت انتقادات إلى هذا المبدأ، أهمها:
أنه يغلب مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة ويغفل فكرة التضامن الاجتماعي.
الظروف الاقتصادية كثيراً ما تؤدي إلى اختلال التوازن العقدي، مما يستلزم تدخل القاضي أو المشرع لتعديل الالتزامات تحقيقاً للعدالة.
انحسار سلطان الإرادة
تراجع سلطان الإرادة مع أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين نتيجة التحولات الاجتماعية والاقتصادية. فقد تبنى الفقه المذهب الاجتماعي الذي يقدم المصلحة العامة على الفرد، ووسع نطاق القواعد الآمرة التي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها حمايةً للنظام العام.
مجالات تطبيق المبدأ
رغم تقييده، ما زال للأطراف حرية معتبرة في:
اختيار المتعاقد الآخر ونوع العقد.
تحديد الالتزامات والشروط.
اختيار لغة العقد والقانون الواجب التطبيق.
تعديل العقد أو إنهاؤه بالتراضي.
لكن هذه الحرية تبقى محصورة في إطار ما لا يتعارض مع القواعد الآمرة.
القواعد الآمرة والمكملة
القواعد الآمرة: لا يجوز الاتفاق على مخالفتها مثل المادة (132/1) مدني التي تقضي ببطلان العقد إذا كان سببه مخالفاً للنظام العام، والمادة (259/3) مدني التي تبطل شرط الإعفاء من المسؤولية عن العمل غير المشروع.
القواعد المكملة والمفسرة: تطبق عند سكوت المتعاقدين، ويجوز الاتفاق على استبعادها لأنها تهدف إلى تحقيق العدالة وتفترض الإرادة المفترضة للمتعاقدين.
معيار التمييز
المعيار المادي/اللفظي: يتضح من صياغة النصوص مثل “يجب” و”لا يجوز”.
المعيار المعنوي/الموضوعي: ينظر إلى مضمون القاعدة؛ فإذا تعلقت بالنظام العام أو المصلحة الأساسية للجماعة فهي آمرة.
الغاية من القواعد الآمرة
تهدف القواعد الآمرة إلى حماية النظام العام والآداب. وهذه الفكرة نسبية ومرنة، تختلف من مجتمع إلى آخر ومن زمن لآخر، وتشمل حماية المصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يقوم عليها كيان المجتمع.
الخلاصة
يتبين أن مبدأ سلطان الإرادة منح الأفراد حرية واسعة في تكوين العقود وتحديد آثارها، لكنه لم يعد مبدأ مطلقاً، إذ أصبح مقيداً بالقواعد الآمرة التي تضعها الدولة لحماية النظام العام والمصلحة العامة. وبالتالي فإن مهمة المحامي تتركز في ضمان صياغة العقود بما يحقق إرادة الأطراف دون مخالفة النصوص الإلزامية، مما يحقق التوازن بين حرية الأفراد واستقرار المجتمع.